هذه هي الحبارى : لعل هناك من يسأل : ما الذي حل بهذه القرية : الشهيرة بواديها الجميل وكثرة مزارعها وانتاجها الوفير من المحاصيل الزراعية ، والثروة الحيوانية ووفرة المياه وبجغرافيتها المتناسقة ؟ !!
الأمر الذي نشأ عنه ، الهجرة الجماعية لسكانها إلى المدن ، ولم يبقى إلا بقية من بقاياهم : كما يقول الشاعر اللبناني : نزار قباني . لعل من البقية ضيف الله بن حلسان ، عريف القرية السابق .
لقد تعرضت هذه القرية لجفاف شديد في أحد السنين لقلة الأمطار حيث جفت مياه الآبار ويبست أشجار الجبال ويبست المراعي.
فرأى عقلاء القوم ، أن هذه نازلة حلت بهم ، وأنه لا مخرج لهم إلا باللجوء إلى الله تعالى ليرفع عنهم هذه الغمة : فكانت حالة الإستسقاء .
دعونا نأخذ مثال واحد عن المراسم التي اعتادوا عليها في مثل هذه المناسبات الدينية ، حسب ما ورد في وصفها من قبل عريفها السابق ضيف الله بن حلسان
هاهي الحشود من أبناء الوادي من الأطفال والشيوخ ، والفقراء ، متجهون في الصباح الباكر الى قمة جبل ( حمى الشامي ) أعلى جبل في المنطقة لغرض إقامة صلاة الإستسقاء .
يتقدمهم أفقر شخص في الوادي : وهو يحمل زنبيل من حبوب القمح لينثرها أمام مواقع النمل في طريقهم إلى قمة الجبل .
ومن خلف هذه الجموع : كلفوا أحد نزلاء القرية المشهور بإنتاج القار والقطران : يدعى ابن عصمان وابنه شينان : باقتياد الذبيحة من خلفهم .
وهو الآخر من الضعفاء والمساكين الذي اختار العيش في هذه القرية فكلفوه وابنه بهذه المهمة ، هو تكريم لهما ، ورجاء أن ينالوا البركة والقبول من الله تعالى .
وبعد أن وصلوا إلى أعالي الجبل حيث موقع الصلاة ، وأعدوا صفوفهم ، وتقدمهم إمام القرية عطية بن محمد بن بكيم رحمه الله تعالى ، ليؤمهم في الصلاة .
وذكر لي أحد المشاركين في هذا الحدث : وهو ضيف الله بن حلسان ، أنه رفع رأسه إلى السماء قبل البدء في تكبيرة الإحرام : ولم يرى أي : أثر للسحاب إطلاقاً إلا بقعة صغيرة مثل حجم المظلة كما وصفها .
وذكر لي بأنه بعد أن فرغوا من الصلاة والدعاء ، وشرعوا في ذبح القربان . رأى أن السحاب بدأ يتكاثر بسرعة عجيبة .
ولم يفرغوا من الذبح والسلخ ، حتى هاجت السماء بأصوات الرعود والبروق : فهطلت الأمطار بغزارة هائلة ، بحيث لم يتمكنوا من توزيع اللحم بينهم ، كما هي العادة ،
فحملوا قطع اللحم وعبروا الشعب بصعوبة ، حتى لجأوا إلى بيت صالح بن مزهر رحمه في قرية آل عافية حيث تم توزيع اللحم بينهم .
ومن الأمور العجية أن الوادي نزل بغزارة ، حتى لم يتمكن عريف القرية ومن معه عبور الوادي إلى منزلهم ، شرق الوادي إلا بصعوبة ، باستخدام الحبال .
المقتضى الإيماني : سألت : الأخ ضيف الله المشارك في الإستسقاء ماهي الفضائل التي كانت سائدة في الوادي بين الناس التي جعلت الله تبارك وتعالى : يستجيب لهم بهذه السرعة ؟ فذكر لي : بعض القيم والفضائل السائده بين أفراد القرية في تلك الفترة ، فقمت بصياغتها على النحو التالي : –
1 – إذا وجدت خصومة بين شخصين يسارعون في إصلاح ذات البين ، ولا يتركون الخصومة تستفحل حتى يتصافوا ، ويقضوا على سبب الخلاف .
2 – في مناسبات الزواج تشارك العوائل في اعداد الولايم وبتقديم الفرش ، وكل متطلبات الزواج . 3 – إذا وجد مشروع بناء ، يشارك جميع أفراد القرية في تسقيف المبنى بالأخشاب ويقومون بفرد الطين بعد خلطه بمخلفات الحيوانات والقش على خشب السقوف .
4 – إذا وجد مريض يسارع الجميع في زيارته ، حتى أنه ذكر : أنه في أحد الوقائع حيث انتشر وباء عم القرية كلها ، وعدم تمكن الناس من مغادرة منازلهم ، فقام بعض النساء ، بجلب المياه على ظهورهن ، وصنع الطعام وتغذية الحيوانات ، إلى البيوت المصابة .
5 – إذا عاد أحد المسافرين بعد غيبة طويلة يعمل له استقبال حافل و عرضه جماعية ، ويجلبون الشْعراء : لتقديم قصائد الترحيب ، ويستضيفونه بالتناوب بين الجميع ، ويقدم هذا المسافر هدايا رمزية للجميع .
5 – إذا لجأ أحد المنقطعين إلى مسجد القرية ،يستضيفونه ، ويقدمون له المأوى والسكن ، حتى يرحل .
6- اذا سافر أحدهم للحج ، يجد من يتولى سقي مزارعه ورعاية أغنامه حتى يعود من سفر الحج .
7 – إذا وجدت مصاهره في قرية أخرى ، يطلب المشاركون جزء من اللحم ويّقدم للمرأة المقيمة في تلك القرية ، لتعزيز صلة القرابة وأشعارها بانتمائها لقريتها ، وأنها في موضع الرعاية والمودة .
أليست هذه القيم والفضائل مما يحبها الله تعالى ، قيم أصيلة في الشريعة الإسلامية ، وينادي بها المصلحون في كل مكان وفي كل زمان لتسود المحبة بين أفراد المجتمع .
الخلاصة : هناك نقاط غامضة وردت في هذا الحدث ، تحتاج إلى النظر والتأمل :- 1 – لماذا يتقدم الجميع أفقر سكان الوادي ، وفيهم عريف القرية ، والوجهاء ، والموامين ؟ . 2 – ولماذا الصلاة في قمة الجبل . بينما يوجد مصلى في الوادي يستخدم في الأعياد ؟ . ٣ – ما المقصد من ذبح هذا الحيوان ، في قمة الجبل بعد الصلاة .؟ ولماذا إطعام النمل ؟ .
ولم أستطع الحصول على إجابة مفصلة على كل هذه الوقائع .
إلا أنه قال لي أحدهم : أن اختيار قمة الجبل هو أن نكون الأقرب إلى ربنا ، وهروبا من معاصينا ومخالفاتنا التي اقترفناها في الوادي والتي تسببت في غضب ربنا وعاقبنا بالجفاف ، فهي تمثل توبة صادقة ، ورجوع الى الله .
أما اختيار الفقراء ليكونوا في المقدمة : أنهم الأقرب لمظنة الإجابة ، لأن الفقراء والمساكين كما قيل : إنما ترزقون بضعفائكم
والنمل قد لحقه الضرر بسبب قلة الأمطار ، الناتج عن معاصي بني آدم فتقديم الطعام لهذه الحيوانات ، لعله يكون تكفيراً لهم ، ومدعاة لرحمة الله تعالى .
قد يسأل أحدهم : اذا كان الأمر ، كما أوردتم في النقاط السابقة من الفضائل : فكيف يعاقبهم الله ، بمنع القطر من السماء ؟ !! روي ان موسى عليه السلام ، أخرج قومه إلى البرية للإستسقاء ، فخاطبه ربه ، لن نستجيب لدعائكم ، حتى تخرجوا شخص من بينكم فقد ناصبني العداء أو كما قيل .
الله عاقب امة بأكملها بسبب شخص واحد ، فقد يكون الأمر كذلك هنا : لا يخلو أي مجتمع من وجود مخالفين ، فيعم الله العقوب على الجميع .
وفي هذا السياق : .في الأثر : سُئل رسول الله : أنهلك وفينا الصالحون ؟ : قال : نعم إذا كثر الخبث . لم يكن المقصود من هذا البحث الرفع من شأن هذه القرية وتمجيد أهلها ، فأهل القرى من حولها على علم بأحوالها . ولم يكن المقصود استنكار ما رافق هذه الطقوس من ممارسات قد لا يقرها الشرع .
ولكن المقصود هو : إبراز الجانب الأخلاقي والأنساني ، في حياة أهل القرية على وجه العموم . وأنه ليحزننا كثيرا مما حل لهذه القرية التي أصبحت في العموم أثر بعد . مع تقديرنا وحبنا وإجلالنا للرجال الشوامخ الذين صمدوا أمام رياح هذه المتغيرات ، واختاروا البقاء والاستمتاع بالأجواء الجميله التي وصفها جنرال امريكي قديماً كان في استضافتي عدة أيام ، حيث قال : ( كم أتمني لو أمكن اقتلاع هذه البيئة العجيبة وأضعها في أرقى أحياء كاليفورنيا ) . يقصد؛ إعجابه بجغرافية المنطقة .
المطالب العالية سعيد بن عطيه الزهراني