الرجل يكون منصرفاً إلى مشاغله الدنيوية من أعمال وظيفية أو تجارية ، منشغل البال بآماله وتطلعاته ، وفجأة يقتحم عقله إدراك جديد لحقيفة هذه الدنيا وما فيها من مكدرات ومنغصات ، فيستيقن أن كل ما فيها ظل زائل ، وأنها لا تستاهل كل هذا الجهد الذي يبذله من أجل مغرياتها .
وأنه إذا نظر إليها غداً عندما يرحل عنها إلى الله تعالى ، سيراها قمامة لا تستحق هذا العناء ، فيتراجع هذا الحب الكامن فيه للدنيا ، وأهوائها ، فهذه الحالة التي وردت عليه ، يسميها العلماء الربانيين : (وارداً إلهياً) .
والآن ما المهمة التي يحققها الوارد الذي يكرم الله بعض خلقه ، الورود على الله لا بقطع المسافات ولا باجتياز المراحل ، وإنما يكون بتوجه القلب إليه بالحب والمهابة والتعظيم .
لننظر إلى هذا الحوار الذي جرى بين رسوال الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والحارث بن مالك الأنصاري ، لتتبين أثر الواردات القلبية الوافدة من عند الله تعالى على حياة الإنسان وسلوكه ، لتعلم شدة حاجتنا اليوم إليها .
قال رسول الله له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال له حارث : أصبحت مؤمناً حقاً ! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : انظر ما تقول ، فإن لكل شئ حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟ .
قال حارث : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها .قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا حارث ، عرفت فالزم . وفي رواية : عبد نور الله قلبه .
والحديث : في الجملة صحيح تقويه أسانيد متعددة ، كما يقول العلماء .