أتفقت الأحاديث ، على أن القدر السابق لا يمنع العمل ، ولا يوجب الأتكالية عليه بل يوجب الجد والأجتهاد ، ولما سمع بعض الصحابة ذلك ، قال أحدهم ما كنت أشد اجتهاداً مني الآن .
وهذا مما يدل على جلالة فقه الصحابة ، ودقة أفهامهم وصحة علومهم ، فإن النبي صلى الله علي وسلم قد أخبرهم بالقدر السابق ، وجريانه على الخلق بالأسباب .
فإن العبد ينال ما قُدر له بالسبب الذي أُقدر عليه ، ومُكن منه وهئ له فإذا أتى بالسبب أوصله إلى القدر الذي سبق له في علم الله في أم الكتاب ، وكلما زاد اجتهاداً في تحصيل السبب كان حصول المقدور أدنى له .
وإذا قُدر له أن يرزق الولد لم ينل ذلك إلا بالنكاح وإن قُدر له أن يحصل على الرزق من أرضه ، لم ينل ذلك إلا بالبذور ، وفعل أسباب الزرع . وإذا قُدر له الشبع والري فذلك موقوف على الأسباب ، المحصلة لذلك ، من الأكل والشرب .
وهذا شأن أمور المعاش والمعاد فمن عطل العمل ، اتكالاً على القدر السابق فهو بمنزلة من عطل الأكل والشرب ، والحركة في المعاش وسائر أسبابه اتكالاً على ما قُدر له .
فإذا علم العبد أن مصالح آخرته مرتبطة بالأسباب الموصلة إليها ، كان أشد اجتهاداً في فعلها من القيام باسباب معاشه ومصالح دنياه .